عبد الله بن عزوز المراكشي : العالِم الموسوعي في التصوف والطب والفلك المتوفي سنة 1204هـ

عبد الله بن عزوز المراكشي: العالِم الموسوعي في التصوف والطب والفلك المتوفي سنة 1204هـ

 

عبد الله بن عزوز المراكشي، المعروف بسيدي بَلّة، هو إحدى الشخصيات البارزة في تاريخ المغرب، التي جمعت بين العلم الروحي والمعرفة الطبية والفلكية. وُلد وعاش في مدينة مراكش، وتوفي سنة 1789م الموافق لـ 1204هـ. وقد ترك وراءه إرثًا فكريًا غنيًا يشهد على موسوعيته وتعمقه في مختلف فروع المعرفة.


من هو ابن عزوز المراكشي ؟

هو أبو محمد عبد الله بن عزوز القرشي الشاذلي المراكشي، أحد العلماء الذين مزجوا بين العلوم الشرعية والتصوف والطب والفلك وأسرار الحروف، بشكل يبرز عمق المعرفة الإسلامية في تلك المرحلة من التاريخ.

لقب بـ سيدي بَلّة، وكان معروفًا في الأوساط العلمية والدينية المغربية بحكمته وتقواه، كما كان طبيبًا وصوفيًا وفقيهًا.


طريقه في التصوف

سلك ابن عزوز المراكشي طريق التصوف على يد الشيخ أبي العباس أحمد الحبيب اللمطي، الذي كان مريدًا للعارف بالله عبد السلام بن الطيب. هذا الأخير كان من تلامذة الشيخ سيدي قاسم الخصاصي، مما يربط ابن عزوز بسلسلة صوفية معتبرة تقوم على الذكر والصفاء الروحي والتجرد عن الماديات.


مؤلفاته: العلم والحكمة في توازن

1. في التصوف والروحانيات

ترك سيدي بَلّة عدة مؤلفات عميقة في علم التصوف وأسرار الحروف والأسماء الإلهية، أبرزها:

رسالة الصوفي للصوفي: تُعنى بالتعريف بالاسم الأعظم الجامع الكافي، وتدل على اهتمامه بمعرفة أسماء الله وصفاته من زاوية روحانية.

إثمد البصائر: وهو نص يتناول حكمة المزاهر، وربما يشير إلى إشراقات روحية تتجلى في المرئيات والرموز الكونية.

2. في الطب التقليدي

من أبرز أعماله:

ذهاب الكسوف ونفي الظلمات في علم الطب: مؤلف يحتوي على نظريات علاجية وفهم للطب القديم من منظور روحاني وفلسفي.

الطبائع والحكمة: يُعد من الكتب التعليمية الأساسية للطلبة في العصر السعدي الأول، وقد حظي باهتمام كبير، حتى أن الباحث الفرنسي هنري بول جوزيف رينو (1881–1945) أثنى عليه في دراسته لتاريخ الطب المغربي.

كشف الرموز: مؤلف متخصص في فوائد النباتات الطبية، ما يعكس اهتمامه بالصيدلة النباتية وأثر الطبيعة في العلاج.

3. في الفلك والحروف

من أشهر أعماله في هذا المجال:

لباب الحكمة في علم الحروف والأسماء الإلهية: يتناول علم الحروف كوسيلة لفهم النظام الكوني.

بحر الوقوف على سر الحروف: محاولة لاكتشاف الرمزية والتجليات الروحية في الحروف.

حل المعقود وعقد المحلول: أعمال تتعلق بفك الطلاسم والرموز من منظور علمي وروحي، وليست مجرد شعوذة كما يُساء فهمها أحيانًا.

وقد ذكر هذه الكتب كل من ابن المؤقت في كتابه السعادة الأبدية، وعبد السلام ابن سودة في كتابه دليل مؤرخ المغرب الأقصى.


وفاته ومكان دفنه

توفي سيدي عبد الله بن عزوز المراكشي سنة 1204هـ (1789م) ودفن في باب أيلان بمراكش، في بيته الذي عاش فيه، والذي لا يبعد كثيرًا عن قبر القاضي عياض. ولا تزال ذكراه حية في الأوساط الروحية والعلمية بالمغرب.


لماذا نكتب عن ابن عزوز اليوم؟

في زمن تتسارع فيه التقنية وتتلاشى فيه بعض القيم الروحية، يظل استحضار شخصيات مثل ابن عزوز المراكشي أمرًا مهمًا لفهم التوازن بين الروح والعقل، وبين العلم والتصوف، وبين الطب والطبيعة.

يُجسد هذا العالم نموذجًا فريدًا للعالم المسلم المتكامل، الذي لا يفصل بين الدين والعلم، ولا بين الطب والروح، ويعيدنا إلى تراث غني يحتاج إلى إعادة قراءة بروح علمية وإنسانية معاصرة.

عبد الله بن عزوز المراكشي


قيمة ابن عزوز في التراث المغربي والإسلامي

إن المتأمل في سيرة عبد الله بن عزوز المراكشي يلحظ مدى أهمية شخصيته في تشكيل الهوية العلمية والروحية للمغرب في القرن الثامن عشر. وقد امتاز هذا العالِم بأنه لم يحصر نفسه في زاوية علمية واحدة، بل مزج بين العرفان الصوفي، والحكمة الطبية، والرؤية الفلكية، وأضفى على علم الحروف والأسماء الإلهية طابعًا عقلانيًا وروحيًا متوازنًا.

الاستمرارية بين العلم والروح

كان ابن عزوز يرى أن العلوم لا تتعارض بل تتكامل، وكان يعتبر أن دراسة الطب والفلك والحرف ليست منفصلة عن الدين، بل امتداد للبحث في سر الوجود الإلهي، ومن هذا المنظور، أصبحت مؤلفاته تُدرّس في الزوايا والمدارس الدينية، لأنها تعكس وحدة المعرفة.


الفكر الصوفي عند ابن عزوز

لقد كان التصوف بالنسبة له ليس مجرد طريقة للزهد أو التفرغ للعبادة، بل هو علم قائم بذاته، له مفاهيمه ومناهجه، ويقوم على تطهير النفس والاتصال بالمطلق. ويبدو ذلك واضحًا في رسالته “الصوفي للصوفي”، حيث يناقش الاسم الأعظم لا بوصفه مجرد لفظ، بل كبوابة لولوج أعماق الوجود، والوصول إلى حالة “الفناء في الله”.

كما أن كتابه “إثمد البصائر” يعتبر مرآة حقيقية للفهم الصوفي الرمزي، إذ يبحث في “حكمة المزاهر”، وهي إشارة إلى التجليات الإلهية في الأشياء الصغيرة، ما يوافق رؤية المتصوفة بأن الحق متجلٍ في كل شيء.


العلوم الطبيعية في منظور روحاني

1. علم الطب بين التجربة والحكمة

في مؤلفه “ذهاب الكسوف”، لا يتناول الطب من زاوية تجريبية محضة، بل يربطه بالحكمة الكونية، ويضع قاعدة تقول:

“المرض ظلمة في الجسد، والدواء نور في النبات، وما بينهما شعاع هو النية”.

هذا النوع من الرؤية يُظهر أن الطب لم يكن عنده مهنة فقط، بل رسالة إنسانية وروحية.

وقد كان ابن عزوز يؤمن بأن الطبيعة تحمل في داخلها مفاتيح الشفاء، ولهذا ركّز في كتابه “كشف الرموز” على شرح خصائص النباتات من زوايا روحية وفسيولوجية في آن واحد.

2. علم الفلك والكونيات

في عصرٍ لم تكن فيه العلوم الفلكية متطورة كما اليوم، استطاع ابن عزوز أن يُقدّم فهمًا كونيًا عميقًا للنجوم والحركات الفلكية، يربط بين النجوم وبين النفس الإنسانية، في محاولة لفهم العلاقة بين المجرّات والقدر. كانت رؤيته في هذا الجانب أشبه بما نسميه اليوم “الأنثروبولوجيا السماوية”.


علم الحروف والأسماء: بين القداسة والرمزية

قد يكون أكثر ما يُثير الجدل حول ابن عزوز هو اهتمامه بعلم الحروف، وهو علم يربط بين الأحرف العربية والطاقات الكونية والإلهية. لكن من المهم أن نُوضح أن هذا العلم لم يكن عنده شعوذة، بل كان بحثًا فلسفيًا صوفيًا، يحاول فيه فهم العلاقة بين الكلمة والخلق، بين الإسم والمُسمّى.

ففي كتابه “بحر الوقوف على سر الحروف”، يُبيّن كيف أن الحروف تحمل أسرارًا لا تُدرَك إلا بالتطهير القلبي والنظر العقلي، وهو ما جعله يكتب:

“الحرف ليس رسما يُكتب، بل نَفَس يُنطق من سرٍ أزليٍّ تجلّى في صورة”.


التأثير والانتشار

لم يكن ابن عزوز مجرد شخصية محلية، بل امتدت شهرته إلى فاس وتطوان وسوس، وقرأ كتبه طلبة من تونس والجزائر وليبيا. وقد اعتمدت الزوايا الصوفية في شمال إفريقيا على بعض من تراثه الروحي والطبي، خاصة ما يتعلق بفهم الأسماء الإلهية وعلاقتها بالنفس والكون.

كما أثّرت كتاباته في فكر عدد من العلماء الفرنسيين الذين زاروا المغرب خلال فترة الحماية، أبرزهم هنري رينو، الذي أشار إلى ابن عزوز في دراساته المتعلقة بتاريخ الطب والصيدلة في المغرب.


رسالة ابن عزوز لعصرنا

في عالم تتقاذفه الماديات والسطحية الفكرية، تبرز شخصية ابن عزوز لتقول لنا إن العلم والروح لا يتعارضان، وإن الإنسان يستطيع أن يكون طبيبًا، وفقيهًا، وفيلسوفًا، ومتأملاً في أسرار الكون في آنٍ واحد.

إنه يُلهمنا لأن نعيد ربط الحاضر بالماضي، ونفهم بأن تراثنا الإسلامي يحمل في طياته مفاتيح لحلول كثيرة اليوم، فقط إن قرأناه بعينٍ مفتوحة وقلبٍ نقي.


دعوة للباحثين والمهتمين

ندعو جميع المهتمين بالتراث والتصوف وعلوم الفلك والطب البديل إلى:

الاطلاع على مؤلفات ابن عزوز المخطوطة والمحفوظة في بعض المكتبات المغربية.

نشرها وتحقيقها علميًا لتستفيد منها الأجيال القادمة.

عدم الوقوع في اختزال هذه العلوم ضمن الشعوذة، بل رؤيتها كجزء من مشروع علمي وفلسفي متكامل.


المصادر والمراجع:

ابن سودة، دليل مؤرخ المغرب الأقصى.

ابن المؤقت، السعادة الأبدية.

هنري بول رينو، دراسات في تاريخ الطب المغربي.

مخطوطات خاصة بمكتبات مراكش وفاس.


الختام

يبقى سيدي عبد الله بن عزوز المراكشي علامة فارقة في التراث المغربي، ورمزًا للانفتاح المعرفي والروحي، وشخصية تستحق أن تُدرَس وتُقدَّر في زمن نحن بأمسّ الحاجة فيه إلى التوازن بين العقل والقلب، بين الأرض والسماء.

لمزيد من المعلومات قم بزيارة صفحتنا على الفيسبوك

لشراء المزيد من المخطوطات النادرة قم بالتسوق الان او تواصل معنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top